فصل: بَابُ النَّفَقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْوَلَدِ مَنْ أَحَقُّ بِهِ:

(وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنِّي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهَا أَنْظَرَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ بِقولهِ: رِيقُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ شَهْدٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك يَا عُمَرُ، قَالَهُ حِينَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالصَّحَابَةُ حَاضِرُونَ مُتَوَافِرُونَ (وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ) عَلَى مَا نَذْكُرُ (وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهَا عَسَتْ تَعْجِزُ عَنْ الْحَضَانَةِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمٌّ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ وَإِنْ بَعُدَتْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّ الْأُمِّ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأَخَوَاتِ) لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ، وَلِهَذَا تَحَرَّزَ مِيرَاثُهُنَّ السُّدُسُ وَلِأَنَّهَا أَوْفَرُ شَفَقَةً لِلْوِلَادِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ جَدَّةٌ فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ) لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأَبَوَيْنِ وَلِهَذَا قُدِّمْنَ فِي الْمِيرَاثِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْخَالَةِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْخَالَةُ وَالِدَةٌ» وَقِيلَ فِي قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} أَنَّهَا كَانَتْ خَالَتَهُ (وَتُقَدَّمُ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ) لِأَنَّهَا أَشْفَقُ (ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ (ثُمَّ الْخَالَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ) تَرْجِيحًا لِقَرَابَةِ الْأُمِّ (وَيَنْزِلْنَ كَمَا نَزَلْنَا الْأَخَوَاتُ) مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ ذَاتِ قَرَابَتَيْنِ ثُمَّ قَرَابَةٍ الْأُمِّ (ثُمَّ الْعَمَّاتُ يَنْزِلْنَ كَذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْقُطُ حَقُّهَا) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ زَوْجَ الْأُمِّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا يُعْطِيهِ نَزْرًا وَيَنْظُرُ إلَيْهِ شَزْرًا فَلَا نَظَرَ.
قَالَ: (إلَّا الْجَدَّةَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا الْجَدُّ) لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ لَهُ (وَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجٍ هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) لِقِيَامِ الشَّفَقَةِ نَظَرًا إلَى الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ (وَمَنْ سَقَطَ حَقُّهَا بِالتَّزَوُّجِ يَعُودُ إذَا ارْتَفَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ) لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْوَلَدِ مَنْ أَحَقُّ بِهِ):
لَمَّا ذَكَرَ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ عَقِيبَ أَحْوَالِ الْمُعْتَدَّةِ ذَكَرَ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ الْوَلَدُ.
قولهُ: (وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ إلَخْ) هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي غَيْرِ مَا إذَا وَقَعَتْ بِرِدَّتِهَا لَحِقَتْ أَوْ لَا لِأَنَّهَا تُحْبَسُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَابَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ وَمَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِلْحَضَانَةِ بِأَنْ كَانَتْ فَاسِقَةً أَوْ تَخْرُجُ كُلُّ وَقْتٍ وَتَتْرُكُ الْبِنْتَ ضَائِعَةً أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً وَلَدَتْ ذَلِكَ الْوَلَدَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَأَبَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرَبِّيَ إلَّا بِأَجْرٍ وَقَالَتْ: الْعَمَّةُ أَنَا أُرَبِّي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَإِنَّ الْعَمَّةَ أَوْلَى هُوَ الصَّحِيحُ.
قولهُ: (فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ) بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً لِأَنَّ الشَّفَقَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ.
قولهُ: (لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَعَمْرٌو هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَإِذَا أَرَادَ بِجَدِّهِ مُحَمَّدًا كَانَ مُرْسَلًا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُتَّصِلًا، فَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُحْتَمِلًا لِلْإِرْسَالِ وَالِاتِّصَالِ، وَهُنَا نَصَّ عَلَى جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَحَجْرُ الْإِنْسَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْحِوَاءُ بِالْكَسْرِ: بَيْتٌ مِنْ الْوَبَرِ وَالْجَمْعُ الْأَحْوِيَةُ.
قولهُ: (وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ عَلَيْهِ) إبْدَاءٌ لِحِكْمَةِ خُصُوصِ هَذَا الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَشْفَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ جَزَاءً لَهَا حَقِيقَةً حَتَّى قَدْ يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ وَأَقْدَرَ عَلَى الْحَضَانَةِ لِتَبَتُّلِهَا بِمَصَالِحِهِ، وَالرَّجُلُ أَقْدَرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَلِذَا جُعِلَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ لَهُ مَالٌ وَجُعِلَ عِنْدَهَا.
وَقولهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ إلَخْ يُشِيرُ إلَى مَا فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمًا، ثُمَّ فَارَقَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَكِبَ يَوْمًا إلَى قُبَاءَ فَوَجَدَ ابْنَهُ يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ فَنَازَعَتْهُ إيَّاهُ، فَأَقْبَلَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا ابْنِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: ابْنِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلَامَ.
وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحْ فَتَزَوَّجَتْ فَجَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ ابْنَهُ، فَأَدْرَكَتْهُ شُمُوسٌ أُمُّ ابْنَةِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلَةَ فَأَخَذَتْهُ فَتَرَافَعَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهَا فَأَخَذَتْهُ.
وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ أُمَّ عَاصِمٍ ثُمَّ أَتَى عَلَيْهَا وَفِي حِجْرِهَا عَاصِمٌ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا فَتَجَاذَبَاهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَكَى الْغُلَامُ فَانْطَلَقَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مَسْحُهَا وَحِجْرُهَا وَرِيحُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْك حَتَّى يَشِبَّ الصَّبِيُّ فَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ.
قولهُ: (وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ) أَيْ فِي بَابِ النَّفَقَةِ، وَهَذَا إنْ كَانَ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَعَلَى ذِي الرَّحِمِ الْوَارِثِ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ.
قولهُ: (وَلَا تُجْبَرُ) يَعْنِي إذَا طَلَبَتْ الْأُمُّ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ أَبَتْ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ تُجْبَرُ.
وَاخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَالْهِنْدُوانِيُّ مِنْ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْوَلَدِ، قَالَ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجْبَرُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي لَا عَادَةَ لَهَا بِالْإِرْضَاعِ، وَتُجْبَرُ الَّتِي هِيَ مِمَّنْ تُرْضِعُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ الْوَلَدُ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ بِلَا خِلَافٍ.
وَيُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى أَخْذِ الْوَلَدِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأُمِّ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَصِيَانَتَهُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَنَا قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَدْ تَعَاسَرَا فَكَانَتْ الْآيَةُ لِلنَّدْبِ أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى حَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّعَاسُرِ وَلِأَنَّهَا عَسَى أَنْ تَعْجِزَ عَنْهُ، لَكِنَّ فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ: لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أُمِّهِ كَانَ إلَيْهَا مُحْتَاجًا هَذَا لَفْظُهُ، فَأَفَادَ أَنَّ قول الْفَقِيهَيْنِ جَوَابُ الرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا قوله تعالى: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْإِرْضَاعِ بَلْ فِي الْحَضَانَةِ.
قَالَ فِي التُّحْفَةِ: ثُمَّ الْأُمُّ وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إرْضَاعُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرُ.
قولهُ: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمٌّ تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْحَضَانَةِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ مُحَرَّمٍ أَوْ مَاتَتْ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ عَلَتْ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أُمُّ الْأَبِ أَوْلَى وَإِنْ اسْتَضْعَفَ بِأَنَّ أُمَّ الْأُمِّ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَهِيَ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى الْأَبِ، فَمَنْ يُدْلِي بِهَا وِلَادًا أَحَقُّ مِمَّنْ يُدْلِي بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْأُمِّ أُمٌّ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِمَّنْ سِوَاهَا وَإِنْ عَلَتْ.
وَعِنْدَ زُفَرَ الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْهَا.
وَعَنْ مَالِكٍ الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْجَدَّةِ لِأَبٍ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرَ الطَّيَّارَ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ اخْتَصَمُوا فِي بِنْتِ حَمْزَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا هِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ زَيْدٌ: بِنْتُ أَخِي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ: الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيه: «إنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ» وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ بَعْدَ قوله: «وَأَمَّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَأَخُونَا وَمَوْلَانَا وَالْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا، فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ» قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ تَشْبِيهٌ، فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ أَوْ غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ السِّيَاقَ أَفَادَ إرَادَةَ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الْحَضَانَةِ أَوْ كَوْنِهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ سِوَاهَا، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الثَّانِي وَالْأَوَّلُ مُتَيَقِّنٌ فَيَثْبُتُ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمُ بِأَنَّهَا أَحَقُّ مِنْ أَحَدٍ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ فَيَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي عَنَيْنَاهُ بِلَا مُعَارِضٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ وَلِهَذَا تَحَرَّزَ مِيرَاثُ الْأُمِّ مِنْ السُّدُسِ، وَغَلَبَةُ الشَّفَقَةِ تَتْبَعُ الْوِلَادَ ظَاهِرًا فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَدَّةً سُفْلَى وَلَا عُلْيَا فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأَبَوَيْنِ وَأُولَئِكَ بَنَاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالشَّقِيقَةُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا، وَاَلَّتِي لِأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَبَعْدَ الْأُخْتِ لِأَبِ الْخَالَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ: الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِالْأُمِّ وَتِلْكَ بِالْأَبِ.
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ: الْأُخْتُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ اعْتِبَارًا لِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَتَقْدِيمِ الْمُدْلِي بِالْأُمِّ عَلَى الْمُدْلِي بِالْأَبِ عِنْدَ اتِّحَادِ مَرْتَبَتِهِمَا قُرْبًا، فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ تُدْفَعُ بَعْدَ الْأُخْتِ لِأَبٍ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ، ثُمَّ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ، ثُمَّ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِأَبٍ، ثُمَّ إلَى الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، ثُمَّ إلَى الْخَالَةِ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ الْعَمَّاتِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ إلَى خَالَةِ الْأُمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ إلَى عَمَّاتِهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَخَالَةُ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ خَالَةِ الْأَبِ عِنْدَنَا، ثُمَّ خَالَاتُ الْأَبِ وَعَمَّاتُهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَوْلَادَ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَأَنَّ الْأُخْتَ لِأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ بِنْتَ الْأُخْتِ تُدْلِي إلَى مَنْ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ، وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ.
(قولهُ لِمَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» وَالنَّزْرُ الْقَلِيلُ وَالشَّزْرُ نَظَرُ الْبُغْضِ.
وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ أَنَّ الْأُمَّ تَزَوَّجَتْ وَأَنْكَرَتْ فَالْقول لَهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالتَّزَوُّجِ إلَّا أَنَّهَا ادَّعَتْ الطَّلَاقَ وَعَوْدَ حَقِّهَا، فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ فَالْقول لَهَا، وَإِنْ عَيَّنَتْهُ لَا يُقْبَلُ قولهَا فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الزَّوْجُ.

متن الهداية:
(فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلصَّبِيِّ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَاخْتَصَمَ فِيهِ الرِّجَالُ فَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْأَقْرَبِ وَقَدْ عُرِفَ التَّرْتِيبُ فِي مَوْضِعِهِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تُدْفَعُ إلَى عَصَبَةٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنِ الْعَمِّ تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَاخْتَصَمَ) الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ وَجَبَ الِانْتِزَاعُ مِنْ النِّسَاءِ أَخَذَهُ الرِّجَالُ، وَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ، وَلِذَلِكَ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْحَضَانَةِ كَانَ الْأَوْلَى بِحِفْظِهِ أَقْرَبَهُمْ تَعْصِيبًا، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ: أَيْ فِي الْفَرَائِضِ، وَأَوْلَى الْعُصُبَاتِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ الْأَبُ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقُ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ سَفَلَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ الْعَمُّ شَقِيقٌ لِأَبٍ، ثُمَّ الْأَبُ.
فَأَمَّا أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ فَيُبْدَأُ بِابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ، وَلَا تُدْفَعُ الصَّغِيرَةُ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَحَارِمَ وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرَةِ عُصْبَةٌ تُدْفَعُ إلَى الْأَخِ لِأُمٍّ ثُمَّ إلَى وَلَدِهِ ثُمَّ إلَى الْعَمِّ لِأُمٍّ، ثُمَّ إلَى الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ لِأُمٍّ، لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النِّكَاحِ.
وَيُدْفَعُ الذَّكَرُ إلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعُصُبَاتِ، وَلَا تُدْفَعُ الْأُنْثَى إلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ فِي الْمَحَارِمِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ لِفِسْقِهِ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْإِمْسَاكِ، الْكُلُّ مِنْ الْكَافِي.
وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّو الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ كَإِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ فَأَصْلَحُهُمْ أَوْلَى، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَسَنُّهُمْ.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً فَإِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ.

متن الهداية:
(وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَتَّى يُسْتَغْنَى فَيَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى يَحْتَاجُ إلَى التَّأَدُّبِ وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ الرِّجَالِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ، وَالْخَصَّافُ قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءَ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ (وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ) لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ آدَابِ النِّسَاءِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَحْتَاجُ إلَى التَّحْصِينِ وَالْحِفْظِ وَالْأَبُ فِيهِ أَقْوَى وَأَهْدَى.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ.
(وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا تُشْتَهَى، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَتَّى تَسْتَغْنِيَ) لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا، وَلِهَذَا لَا تُؤَاجِرُهَا لِلْخِدْمَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ لِقُدْرَتِهِمَا عَلَيْهِ شَرْعًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (حَتَّى يَأْكُلَ إلَخْ) الَّذِي فِي الْأَصْلِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ.
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ النَّوَادِرِ: وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ، فَضَمَّهُ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رَشِيدٍ: وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَحْصُلَ الِاسْتِغْنَاءُ.
ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ تَمَامُ الطَّهَارَةِ بِأَنْ يُطَهِّرَ وَجْهَهُ وَحْدَهُ بِلَا مُعِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمَامِ الطَّهَارَةِ.
قولهُ: (وَالْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءَ بِسَبْعِ سِنِينَ) وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، لَا مَا قِيلَ: إنَّهُ يُقَدَّرُ بِتِسْعٍ لِأَنَّ الْأَبَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ ابْنُ سَبْعٍ وَقَالَتْ ابْنُ سِتٍّ لَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي أَحَدَهُمَا وَلَكِنْ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ دَفَعَ وَإِلَّا فَلَا.
قولهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ) وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ.
وَفِي غِيَاثِ الْمُفْتِي الِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لِفَسَادِ الزَّمَانِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ لِيُبْنَى عَلَيْهَا أَخْذَ الْأَبِ وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، قَالُوا: بِنْتُ تِسْعٍ مُشْتَهَاةٌ، وَخَمْسٍ لَيْسَتْ مُشْتَهَاةً، وَسِتٍّ وَسَبْعٍ وَثَمَانٍ إنْ كَانَتْ عَبْلَةً مُشْتَهَاةٌ وَإِلَّا فَلَا.
قولهُ: (وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ) يَعْنِي الْجَدَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَالْأَبِ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا) شَرْعًا، وَتَعْلِيمُ آدَابِ النِّسَاءِ مِنْ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَالْغَزْلِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ (بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ لِقُدْرَتِهِمَا عَلَيْهِ شَرْعًا) وَلِذَا جَازَ أَنْ تُؤَاجِرَهَا.
قَالَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ الشَّهِيدُ: فَإِنْ كَانَتْ الْبِكْرُ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ وَاجْتَمَعَ عَقْلُهَا وَرَأْيُهَا وَأَخُوهَا مَخُوفٌ عَلَيْهَا فَلَهَا أَنْ تَنْزِلَ حَيْثُ أَحَبَّتْ فِي مَكَان لَا يُتَخَوَّفُ عَلَيْهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْأَمَةُ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ كَالْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُمَا حُرَّتَانِ أَوَانَ ثُبُوتَ الْحَقِّ (وَلَيْسَ لَهُمَا قَبْلَ الْعِتْقِ حَقٌّ فِي الْوَلَدِ لِعَجْزِهِمَا) عَنْ الْحَضَانَةِ بِالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى (وَالذِّمِّيَّةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يَخَفْ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ) لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الضَّرَرِ بَعْدَهُ (وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمَا الْخِيَارُ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيَّرَ.
وَلَنَا أَنَّهُ لِقُصُورِ عَقْلِهِ يَخْتَارُ مَنْ عِنْدَهُ الدَّعَةُ لِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّعِبِ فَلَا يَتَحَقَّقُ النَّظَرُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُخَيِّرُوا، أَمَّا الْحَدِيثُ فَقُلْنَا قَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «اللَّهُمَّ اهْدِهِ» فَوُفِّقَ لِاخْتِيَارِهِ الْأَنْظَرَ بِدُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بَالِغًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْأَمَةُ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ كَالْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ) وَحَالُ الْحُرَّةِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حُرًّا كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَمِنْ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ لَهُ مَوْلًى أَعْتَقَهُ، وَمِنْ مَوْلَاهَا إنْ كَانَ ابْنُهَا مِنْهُ قَبْلَ عِتْقِهَا، وَلَوْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَالْوَلَدُ لِمَوْلَاهَا وَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا وَلَمْ يُفَارِقْ أُمَّهُ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِالْوَلَدِ لَكِنْ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي.
وَفِي التُّحْفَةِ: الْمُكَاتَبَةُ إنْ وَلَدَتْ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَا حَقَّ لَهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْكِتَابَةِ.
قولهُ: (وَيَخَافُ) بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَوْ يَخَفْ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى يَعْقِلْ، وَتُمْنَعُ أَنْ تُغَذِّيَهُ الْخَمْرَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَإِنْ خِيفَ ضُمَّ إلَى نَاسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى إلَى أَنْ يُخَافَ مِثْلُهُ فِي قولهِ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، وَلَكِنَّ هَذَا فِي أَوْ لَا الْوَاوِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لَا حَضَانَةَ لَهَا، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ كَقولنَا وَهُوَ قول ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقولهُ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ دَافِعٌ لِقولهِمْ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَنْظَرَ لِلصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُمِّ لِوُفُورِ شَفَقَتِهَا وَزِيَادَةِ قُدْرَتِهَا عَلَى التَّبَتُّلِ بِمُلَاحَظَتِهِ وَمَصَالِحِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ يَرْتَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَا.
قولهُ: (وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ) يَعْنِي إذَا بَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يَكُونُ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ كَسَبْعٍ مَثَلًا أَخَذَهُ الْأَبُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْغُلَامِ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ يُخَيَّرُ فِي سَبْعٍ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا وَسَلَّمَ إلَيْهِ ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرُ فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أُعِيدَ إلَيْهِ هَكَذَا أَبَدًا.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَالْمَعْتُوهُ لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ عِنْدَ الْأُمِّ.
قولهُ: (لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ) أَخْرَجَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ حَاصِلُهَا أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا فِي وَاقِعَةٍ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثُمَّ رُوِيَ الْحَدِيثُ، وَلَفْظَه: «سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ» وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَجَابَ عَنْ الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَنْ يُوَفَّقَ لِاخْتِيَارِ الْأَنْظَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاقِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ «أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَجَاءَا بِابْنٍ لَهُمَا صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبَ هُنَا وَالْأُمَّ هُنَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ، فَذَهَبَ إلَى أَبِيهِ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَالَ رَافِعٌ ابْنَتِي، فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّ نَاحِيَةً وَالْأَبَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ نَاحِيَةً وَقَالَ لَهُمَا اُدْعُوَاهَا، فَمَالَتْ الصَّبِيَّةُ إلَى أُمِّهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَسَمَّى الْبِنْتَ عُمَيْرَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَمَةَ «أَنَّ أَبَوَيْنِ اخْتَصَمَا فِي وَلَدٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَجَّهَ إلَى الْكَافِرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ، فَتَوَجَّهَ إلَى الْمُسْلِمِ فَقَضَى لَهُ بِهِ» قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَتَيْنِ: اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ وَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ.
قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ اخْتَصَمَا فِيهِ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ: فِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ سَلَمَةَ وَأَبَاهُ وَجَدَّهُ لَا يَعْرِفُونَ، وَلَوْ صَحَّتْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ خِلَافًا لِرِوَايَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ فَإِنَّهُمْ ثِقَاتٌ، وَهُوَ وَأَبُوهُ ثِقَتَانِ وَجَدُّهُ رَافِعُ بْنُ سِنَانٍ مَعْرُوفٌ، وَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقولهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَدُّ أَبِيهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ سِنَانٍ، وَنَحْنُ نَقول: إنَّهُ إذَا اخْتَارَ مَنْ اخْتَارَهُ الشَّرْعُ دَفَعَ لَهُ، لَكِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ بِتَخْيِيرِ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ دُعَائِهِ فَيَجِبُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِبَارُ مَظِنَّةِ الْأَنْظَرِيَّةِ وَهُوَ فِيمَا قُلْنَا.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا بِدَلِيلِ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَمَنْ دُونَ الْبُلُوغِ لَا يُرْسَلُ إلَى الْآبَارِ لِلِاسْتِقَاءِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ فِيهِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ غَالِبًا، وَنَحْنُ نَقول: إذَا بَلَغَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَيِّهِمَا أَرَادَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ.
أَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنْ بَلَغَتْ بِكْرًا ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ بَلَغَتْ ثَيِّبًا فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَأْمُونَةٍ عَلَى نَفْسِهَا لَا يَوْثُقُ بِهَا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ، وَكَذَا الْأَخُ، وَلِلْعَمِّ الضَّمُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا، وَإِنْ كَانَ فَحِينَئِذٍ يَضَعُهَا الْقَاضِي عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُخَيِّرُوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَمَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَيَّرَ ابْنًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَيْلَ الِابْنِ إلَى أُمِّهِ وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ فَأَحَبَّ تَطْيِيبَ قَلْبِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ فَخَيَّرَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ أَبَا بَكْرٍ الْكَلَامَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ عَدَمَ الْمُرَاجَعَةِ لَيْسَ دَلِيلًا لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إمَامًا يَجِبُ نَفَاذُ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا لِيُوَافِقَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.

.فَصْلٌ: إِذَا أَرَادَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا:

(وَإِذَا أَرَادَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْأَبِ (إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهِ إلَى وَطَنِهَا وَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ تَزَوَّجَهَا فِيهِ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَقَامَ فِيهِ عُرْفًا وَشَرْعًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا، وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى مِصْرٍ غَيْرِ وَطَنِهَا وَقَدْ كَانَ التَّزَوُّجُ فِيهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَذَا رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى وُجِدَ فِي مَكَان يُوجِبُ أَحْكَامَهُ فِيهِ كَمَا يُوجِبُ الْبَيْعُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ حَقُّ إمْسَاكِ الْأَوْلَادِ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّزَوُّجَ فِي دَارِ الْغُرْبَةِ لَيْسَ الْتِزَامًا لِلْمُكْثِ فِيهِ عُرْفًا، وَهَذَا أَصَحُّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: الْوَطَنُ وَوُجُودُ النِّكَاحِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ تَفَاوُتٌ، أَمَّا إذَا تَقَارَبَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ لِلْوَالِدِ أَنْ يُطَالِعَ وَلَدَهُ وَيَبِيتَ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ، وَلَوْ انْتَقَلَتْ مِنْ قَرْيَةِ الْمِصْرِ إلَى الْمِصْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ حَيْثُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْأَبِ، وَفِي عَكْسِهِ ضَرَرٌ بِالصَّغِيرِ لِتَخَلُّقِهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ السَّوَادِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) إِذَا أَرَادَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا:
إذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْأُمِّ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِالْوَلَدِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ كَانَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا لِأَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لَهُ بَعْدَ إيفَاءِ مُعَجَّلِ الْمَهْرِ خُصُوصًا بَعْدَمَا خَرَجَتْ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ الْبَلْدَةِ الَّتِي تُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَيْهَا بَلَدَهَا وَقَدْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهَا أَوَّلًا، فَفِي الْأَوَّلِ لَيْسَ لِلْأَبِ مَنْعُهَا وَإِنْ بَعُدَتْ كَالْكُوفَةِ مِنْ الشَّامِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ دَارَ حَرْبٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ حَرْبِيَّةً، وَلَوْ كَانَ كِلَاهُمَا مُسْتَأْمَنًا جَازَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَدَ النِّكَاحَ بِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقِيمُ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَجَبَ عَلَيْهَا الْمُتَابَعَةُ أَوْ تَابَعَتْهُ بِلَا وُجُوبٍ.
وَإِذَا زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ لَمْ تَجِبْ الْمُتَابَعَةُ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَوْلَادُ غَيْبًا بِأَنْ تَزَوَّجَهَا مَثَلًا بِالْبَصْرَةِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَخَاصَمَتْهُ فِيهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهَا، فَإِنْ أَخْرَجَهُمْ بِإِذْنِهَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إلَيْهَا وَيُقَالُ لَهَا اذْهَبِي إلَيْهِمْ فَخُذِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إلَيْهَا.
وَفِي الثَّانِي لَهُ مَنْعُهَا سَوَاءٌ كَانَ مِصْرَهَا وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَوْ عَقَدَ فِيهِ وَلَيْسَ مِصْرَهَا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ إلَّا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مِصْرٍ قَرِيبٍ، بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ الْأَبُ لِمُطَالَعَةِ الْوَلَدِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ كَذَلِكَ وَكَانَ الْعَقْدُ فِي قَرْيَةٍ لِأَنَّهُ كَالِانْتِقَالِ مِنْ حَارَةٍ إلَى حَارَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ فِي قَرْيَةٍ بَلْ مِصْرٍ فَلَيْسَ لَهَا إخْرَاجُهُ إلَى الْقَرْيَةِ الْقَرِيبَةِ، هَذَا فِيمَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ.
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ وَصَارَتْ الْحَضَانَةُ لِلْجَدَّةِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ بِالْوَلَدِ إلَى مِصْرِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ، وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ لَا تُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الْغُلَامُ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَ الْأَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ.
وَلِنَتَكَلَّمْ عَلَى فُصُولِ الْكِتَابِ.
قولهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئَابٍ، أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ» وَإِنِّي تَأَهَّلْت مُنْذُ قَدِمْت مَكَّةَ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ» وَإِنَّمَا أَتْمَمْت لِأَنِّي تَزَوَّجْت بِهَا مُنْذُ قَدِمْتهَا.
وَقَدْ ضُعِّفَ عِكْرِمَةُ الْأَزْدِيُّ.
(وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا) ظَاهِرُهُ أَنَّ بِالتَّزَوُّجِ يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا وَدَفَعَ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُصَرَّحِ بِهِ بَلْ لَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِالتَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْتِزَامَ الْمَقَامِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَوْدِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَرْبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً لِعَدَمِ كَوْنِ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا فَيَكُونُ الْتِزَامًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِحَمْلِ الْحَرْبِيِّ عَلَى إرَادَةِ الشَّخْصِ الْحَرْبِيِّ فَيَصِحُّ مُرَادًا بِهِ الْحَرْبِيَّةُ وَبِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْتِزَامَ الْمَقَامِ.
قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرٌ لَوْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ.
وَفِي النِّهَايَةِ: وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي لَيْسَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي قُوبِلَتْ مَعَ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَلْ اتَّصَلَ قولهُ وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بِقولهِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَا ذَكَرَ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقَعَ سَهْوًا انْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى تَكَلُّفِ تَوْجِيهِهِ بِمَا قُلْنَا وَبِغَيْرِهِ، وَتَحْمِيلُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ فَهُوَ تَزَوُّجُ الرَّجُلِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِيضَاحُ بِتَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الْحَرْبِيَّةِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْحَالُ أَنَّ صَيْرُورَتَهَا كَذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْتِزَامَ الْمَقَامِ فَلَيْسَ السَّوْقُ لِإِثْبَاتِهِ.
قولهُ: (أَشَارَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيُّ وَقِيلَ الْمَبْسُوطُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُعْتَادُ الْمُصَنِّفِ، وَلَا يُسْتَفَادُ الثَّانِي لِعَدَمِ الْمَعْهُودِيَّةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ قولهُ إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهَا إلَى وَطَنِهَا يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ، وَاَلَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّزَوُّجُ غَيْرُ وَطَنِهَا.
وَقولهُ وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ: أَيْ مِنْ الْأَصْلِ، وَفِي الْعَكْسِ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَتْ الِانْتِقَالَ إلَى مِصْرِهَا وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لَهَا الِانْتِقَالُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ.
قولهُ: (كَمَا يُوجِبُ الْبَيْعُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ) أَيْ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ فِي الْفَتَاوَى: مَنْ بَاعَ شَعِيرًا وَالشَّعِيرُ فِي الْقَرْيَةِ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَانِهِ لَا فِي مَكَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَسَلَّمَهُ فِي مَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فَكَذَا حَقُّ إمْسَاكِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الثَّمَرَاتِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا لِلثَّمَرَاتِ بِالْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ.
قولهُ: (تَفَاوُتٌ) أَيْ بُعْدٌ، وَفِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْقَرْيَةِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ قَرِيبَةً إلَّا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهَا وَهِيَ قَرْيَتُهَا فَحِينَئِذٍ لَهَا ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.
وَفِي شَرْحِ الْبَقَّالِيِّ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ بِحَالٍ وَقَعَ الْعَقْدُ هُنَاكَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ.
ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي الَّذِي هُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي رُسْتَاقَ وَلَهُ قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ الْقُرَى قَرِيبَةً يَنْظُرُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَبِيهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ يَوْمِهِ.
وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُخْرِجُهُ مِنْ مِصْرٍ جَامِعٍ إلَى قُرًى، إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهَا فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْقُرَى.
وَفِيهِ أَيْضًا: وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ لِوَلَدِهَا وَتَبِيعَ وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ النَّفَقَةِ:

قَالَ: (النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَسُكْنَاهَا) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ {وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ: أَصَّلَهُ الْقَاضِي وَالْعَامِلُ فِي الصَّدَقَاتِ.
وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا فَصْلَ فِيهَا فَتَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ (وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُهُمَا جَمِيعًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ تَجِبُ نَفَقَةُ الْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنَفَقَةُ الْإِعْسَارِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً وَالزَّوْجُ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهَا دُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَفَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَاتِ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِقولهِ تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} وَجْهُ الْأَوَّلِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ «خُذِي مِنْ مَالِ زَوْجِكِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» اعْتَبَرَ حَالَهَا وَهُوَ الْفِقْهُ فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، وَالْفَقِيرَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى كِفَايَةِ الْمُوسِرَاتِ فَلَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ، وَنَحْنُ نَقول بِمُوجَبِ النَّصِّ أَنَّهُ يُخَاطِبُ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَالْبَاقِي دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَعْنَى قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} الْوَسَطُ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفُ مُدٍّ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ كِفَايَةً لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا فِي نَفْسِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ النَّفَقَةِ).
النَّفَقَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ النُّفُوقِ: وَهُوَ الْهَلَاكُ، نَفَقَتْ الدَّابَّةُ نُفُوقًا هَلَكَتْ، أَوْ مِنْ النِّفَاقِ وَهُوَ الرَّوَاجُ، نَفَقَتْ السِّلْعَةُ نِفَاقًا رَاجَتْ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا فَاؤُهُ نُونٌ وَعَيْنُهُ فَاءٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ مِثْلُ نَفَقَ وَنَفَرَ وَنَفَخَ وَنَفَسَ وَنَفِيَ وَنَفِدَ.
وَفِي الشَّرْعِ الْإِدْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا بِهِ بَقَاؤُهُ ثُمَّ نَفَقَةُ الْغَيْرِ تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِأَسْبَابِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ، فَبَدَأَ بِالزَّوْجَاتِ إذْ هِيَ الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ فَرَّعَهَا، ثُمَّ بِالسَّبَبِ الْأَبْعَدِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مَرْجِعُ الضَّمِيرِ لِلْوَالِدَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُنَّ، قِيلَ هِيَ الزَّوْجَاتُ، وَقِيلَ هِيَ الْمُطَلَّقَاتُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا} وَقَالَ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي ضِمْنِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إلَّا مَا آخُذُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ» وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْبَابِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ قولهِ: مَا رَأَيْت أَحَدًا جُبِرَ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
قولهُ: (وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ) أَيْ لِمَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ الرَّهْنُ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ حَبْسِهِ لَيْسَتْ مُتَمَحِّضَةً لَلْمُرْتَهِنِ بَلْ مُشْتَرَكَةً، وَخَرَجَ الْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا حَتَّى لَوْ تَعَجَّلَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ فَاسِدٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَخَذَتْ، أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِلَا فَرْضِ الْقَاضِي فَلَا يَرْجِعُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ اُتُّهِمَ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْحَبَلَ مِنْهُ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا تَسْتَحِقُّهَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ وَطْئِهَا، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِنْهُ تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالِاتِّفَاقِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْكُلِّ وَحَلَّ وَطْؤُهَا وَتَقَدَّمَ أَصْلُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (أَصْلُهُ الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَاتِ) وَالْمُفْتِي وَالْوَالِي وَالْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ إذَا قَامُوا بِدَفْعِ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءُ مَحْبُوسَاتٌ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُنَّ عَلَيْهِمْ مُسْلِمَاتٍ كُنَّ أَوْ لَا وَلَوْ غَنِيَّاتٍ.
وَقولهُ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ شَرْطًا لَازِمًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الزَّوْجُ انْتِقَالَهَا، فَإِنْ طَلَبَهُ فَامْتَنَعَتْ لِحَقٍّ لَهَا كَمَهْرِهَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَقٍّ حِينَئِذٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا لِنُشُوزِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تُزَفَّ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاخْتَارَهَا الْقُدُورِيُّ وَلَيْسَ الْفَتْوَى عَلَيْهِ.
وَقول الْأَقْطَعِ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ فِي شَرْحِهِ: إنَّ تَسْلِيمَهَا نَفْسَهَا شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ مَنْظُورٌ فِيهِ، ثُمَّ قَرَّرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُلْهَا إلَى بَيْتِهِ وَلَمْ تَمْتَنِعْ هِيَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَلَكِنَّهُ رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ حَيْثُ تَرَكَ النَّقْلَةَ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا.
قولهُ: (وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ قول الْخَصَّافِ وَقول الْكَرْخِيِّ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ بِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ.
وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْيَسَارِ فِي يَسَارِهِمَا وَالْإِعْسَارِ فِي إعْسَارِهِمَا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الِاخْتِلَافِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرٌ فَعَلَى مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ نَفَقَةٌ فَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَةِ وَدُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَةِ وَكَذَا فِي عَكْسِهِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً لَمَا تَزَوَّجَتْ مُعْسِرًا فَقَدْ رَضِيَتْ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ، وَفِي الثَّانِي نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ تَمَامَ الْأَقْسَامِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ تَفْسِيرُ قول الْخَصَّافِ، بَلْ تَرَكَ مَا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَالزَّوْجُ مُعْسِرٌ وَكَأَنَّهُ لِاتِّحَادِ جَوَابِهِ بِجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُعْسِرَةً وَهُوَ مُوسِرٌ.
وَكَانَ الْأَوْلَى حِينَئِذٍ أَنْ يَقول: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا وَاقْتَصَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبِ الْخَصَّافِ عَلَى حَدِيثِ هِنْدٍ وَقَالَ فِيهِ اُعْتُبِرَ حَالُهَا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَصْلُحُ رَدًّا لِاعْتِبَارِ حَالِهِ فَقَطْ: يَعْنِي إذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ حَالِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَطَلَ قولكُمْ يَعْتَبِرُ فَقَطْ.
ثُمَّ اعْتِبَارُ حَالِهِ ثَابِتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ الْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ وَالْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمَا.
وَيُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ هِنْدٍ خَبَرٌ وَاحِدٌ وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مُطْلَقٌ فِي اعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَالِ الْمُوسِرِ مُعْسِرَةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ لَا وَالْمُعْسِرَةُ مُعْسِرَةً كَانَتْ أَوْ لَا، فَاعْتِبَارُ حَالِهِمَا زِيَادَةٌ مُوجِبَةٌ لِتَغْيِيرِ حُكْمِ النَّصِّ، إذْ تُوجَبُ الزِّيَادَةُ فِي مَوْضِعٍ يَقْتَضِي النَّصُّ فِيهِ عَدَمَهَا، وَعَدَمُهَا فِي مَوْضِعٍ يَقْتَضِي فِيهِ وُجُودَهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ دَفْعَ هَذَا بِقولهِ: وَأَمَّا النَّصُّ فَنَقول بِمُوجَبِهِ: إنَّهُ مُخَاطَبٌ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمُفَادَ بِالنَّصِّ اعْتِبَارُ حَالِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَنَحْنُ نَقول: إنَّ الْمُعْسِرَ لَا يُنْفِقُ فَوْقَ وُسْعِهِ وَهُوَ لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ حَالِهَا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ لَهَا، وَالْحَدِيثُ أَفَادَهُ فَلَا زِيَادَةَ عَلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ تَكْلِيفَهُ بِإِخْرَاجِ قَدْرَ حَالِهِ، وَالْحَدِيثُ أَفَادَ اعْتِبَارَ حَالِهَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَا الْمُخْرِجِ فَيَجْتَمِعَانِ بِأَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرًا وَيَخْرُجُ قَدْرَ حَالِهِ فَبِالضَّرُورَةِ يَبْقَى الْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ مُوسِرًا فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حَالِهِ وَأَطْلَقَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ كِفَايَتَهَا، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارُ حَالِهَا فَإِنَّ الْكِفَايَةَ تَخْتَلِفُ، ثُمَّ هَذَا الْبَحْثُ يُتَّجَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} فَلَا لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي نَفْسِ الْوَاجِبِ الْمُفَادِ بِلَفْظٍ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ فِي الْمُتْعَةِ لَا فِي النَّفَقَةِ، وَيَدَّعِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْلُوكًا بِهَا مَسْلَكَ الْكِسْوَةِ بَلْ هِيَ بَدَلُ نِصْفِ الْمَهْرِ، أَوْ أَنَّ قوله: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} الْآيَةَ يُقَيِّدُهُ بِالْقُدْرَتَيْنِ: أَيْ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ مَعَ قَدْرِهَا وَكَذَا الْآخَرُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يَدْفَعَ لِلْفَائِقَةِ مَا يَدْفَعُ لِلْفَقِيرَةِ.
قولهُ: (وَهُوَ الْوَاجِبُ) أَيْ الْوَسَطُ هُوَ الْوَاجِبُ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا.
وَقَدْ يُقَامُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ تَفْسِيرِ قول الْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ فِي أَوْسَاطِ الْحَالِ وَفِي اخْتِلَافِهِمَا بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فَوْقَ الْإِعْسَارِ وَدُونَ نَفَقَةِ الْيَسَارِ وَهَذَا وَسَطٌ.
وَأَمَّا فِي يَسَارِهِمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَجِبُ نَفَقَةٌ هِيَ وَسَطٌ فِي الْيَسَارِ، وَأَمَّا فِي إعْسَارِهِمَا فَيَجِبُ أَيْضًا نَفَقَةُ وَسَطٍ فِي الْإِعْسَارِ وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ إذَا فَرَضَ أَنَّ إعْسَارَهُمَا غَايَةٌ فِي الْإِعْسَارِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الْغَايَةُ فِيهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالِهِ أَوْ حَالِهِمَا لَا يُوجِبُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرُوفِ فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكَ» مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرَ فَيَسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي مُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ أَنَّ كِفَايَتَهَا دُونَ كِفَايَةِ الْفَائِقَةِ فَيَجِبُ ذَلِكَ لِيَسَارِهِ وَعِنْدَ غَايَةِ إعْسَارِهَا وَإِعْسَارِهِ الْمَعْرُوفِ دُونَ التَّوَسُّطِ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارَ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا فَرَضَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَبِاعْتِبَارِ الْحَالِ مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَكَمَا يُفْرَضُ لَهَا قَدْرُ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ كَذَلِكَ مِنْ الْإِدَامِ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَأْدُومًا.
قولهُ: (لِأَنَّ مَا وَجَبَ كِفَايَةً لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا فِي نَفْسِهِ) لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكُلُّ جَوَابٍ عُرِفَ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِهِ أَوْ حَالِهِمَا فِي النَّفَقَةِ فَفِي الْكِسْوَةِ مِثْلُهُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَالْقول قول الزَّوْجِ فِي الْعُسْرَةِ، كَذَا فِي الْأَصْلِ.
وَأَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ الْقول قولهَا إنَّهُ قَادِرٌ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ.
وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ قَالَ: يَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ إلَّا فِي الْعَلَوِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْقول قولهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا فَسَأَلَتْ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ يَسَارِهِ فِي السِّرِّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي، وَإِنْ فَعَلَهُ فَأَتَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ مُوسِرٌ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا عَلِمَا ذَلِكَ وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدَيْنِ: فَإِنْ أَخْبَرَاهُ مِنْ وَرَاءِ وَرَاءٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِقولهِمَا، فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُوسِرٌ فَأَقَامَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ أَخَذَ بِبَيِّنَتِهَا وَفَرَضَ عَلَيْهِ نَفَقَةَ الْمُوسِرِ، كَذَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ) لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ فَكَانَ فَوْتُ الِاحْتِبَاسِ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ كَلَا فَائِتٍ.
(وَإِنْ نَشَزَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ) لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا، وَإِنْ عَادَتْ جَاءَ الِاحْتِبَاسُ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ التَّمْكِينِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ وَالزَّوْجُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ كَرْهًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ) يُفِيدُ أَنَّ النُّشُوزَ الْمُسْتَعْقِبَ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ مَأْخُوذٌ فِيهِ خُرُوجُهَا عَنْ مَنْزِلِهِ، وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ عَدَمُ مُوَافَقَتِهَا عَلَى الْمَجِيءِ إلَى الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا أَوْ امْتَنَعَتْ عَنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى مَنْزِلِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ إيفَائِهِ مُعَجَّلَ مَهْرِهَا أَوْ عَدَمِ تَمْكِينِهَا إيَّاهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي مَنْزِلِهَا الْمَمْلُوكِ لَهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ مَعَهُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ يَكْتَرِيَ لَهَا مَنْزِلًا، فَإِنْ كَانَتْ سَأَلَتْهُ فِي ذَلِكَ لِتَنْتَفِعَ بِمِلْكِهَا فَأَبَى فَمَنَعَتْهُ الدُّخُولَ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: وَقَالَتْ إنَّمَا خَرَجْت لِأَنَّك سَاكِنٌ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ لَا تَكُونُ نَاشِزَةً.
وَفِي الْفَتَاوَى لِلنَّسَفِيِّ: لَوْ كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ وَهِيَ بِنَسَفَ فَبَعَثَ إلَيْهَا أَجْنَبِيًّا لِيَحْمِلَهَا إلَيْهِ فَأَبَتْ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِ لَهَا النَّفَقَةُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الِاسْتِمْتَاعِ لِمَعْنًى فِيهَا، وَالِاحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مَقْصُودٍ مُسْتَحَقٌّ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الْمَرِيضَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ الْمِلْكِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ عَنْ مُعَوَّضٍ وَاحِدٍ فَلَهَا الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا) أَيْ لَا تُوطَأُ.
وَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَطْءُ، وَبِهِ قَيَّدَ الْحَاكِمُ قَالَ: لَا نَفَقَةَ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُجَامِعُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالَةٍ تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ الْأَبِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا، فَقِيلَ أَقَلُّهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ: اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا تِسْعُ سِنِينَ.
وَالْحَقُّ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، فَإِنَّ احْتِمَالَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنْيَةِ، وَعَلَى قولنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قولهِ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ.
وَفِي قول لَهُ: تَجِبُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَهُوَ قول الثَّوْرِيِّ وَالظَّاهِرِيَّةِ.
قُلْنَا: أَمَّا قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ لِلْوَالِدَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرُ.
وَأَمَّا قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} فَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ: يَعْنِي عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، فَثُبُوتُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا خَارِجٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالزَّوْجَاتِ فِيهَا كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَهُنَّ، أَلَا تَرَى أَنْ لَيْسَ كُلُّ زَوْجَةٍ تَسْتَحِقُّهَا كَالنَّاشِزَةِ فَيَعْمَلُ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيه: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ النِّسَاءُ اللَّاتِي حَلَّتْ فُرُوجُهُنَّ، وَنَقول: لَا يَحِلُّ فَرْجُ مَنْ لَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ فَإِنَّهُ إهْلَاكٌ أَوْ طَرِيقُهُ.
وَلَوْ سَلَّمَ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَإِنَّ النَّاشِزَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَاكَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَاسْتِحْقَاقُهَا النَّفَقَةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهَا عَلَى قُصُورِهِ إلْحَاقًا لِلْمَالِكِ الْقَاصِرِ بِالْمِلْكِ الْكَامِلِ فِي الْمَرْقُوقَةِ، أَوْلِاحْتِبَاسِهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ التَّزْوِيجِ: أَعْنِي الْوَطْءَ أَوْ دَوَاعِيَهُ، أَوْ لِاحْتِبَاسِهَا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ إيجَابَهَا بِسَبَبِ مِلْكٍ كَامِلٍ لَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابَهَا بِسَبَبِ مِلْكٍ نَاقِصٍ، إذْ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ إيجَابُهَا فِي الْكَامِلِ لِمَعْنًى تَضَمَّنَهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّاقِصِ فَتَجِبُ فِيهِ لِذَلِكَ الْمُشْتَرِكُ لَا لِلْمِلْكِ، وَلَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِكَ لَكَانَ احْتِبَاسُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَسَنُورِدُهَا وَجْهًا وَجْهًا، وَأَيْضًا عِوَضُ الْمِلْكِ هُنَا الْمَهْرُ فَلَا تَكُونُ النَّفَقَةُ أَيْضًا عِوَضًا وَإِلَّا اجْتَمَعَ عَنْ الْمُعَوَّضِ الْوَاحِدِ عِوَضَانِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعِوَضِ الْوَاحِدِ مَجْمُوعَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَبْدٍ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُعَوِّضٌ يَثْبُتُ جُمْلَةً وَهُوَ تَمَامُ الْعِلَّةِ لِعِوَضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ عِوَضِهِ يَثْبُتُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَذَلِكَ الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ لَزِمَ جَهَالَةً أَيْ الْعِوَضَيْنِ فَإِنَّمَا تَجِبُ بِحَادِثٍ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ نَظَرًا إلَى بَقَائِهِ وَهَذَا طَرِيقُ الْمُصَنِّفِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَقول النَّفَقَةُ فِي الْمَرْقُوقَةِ أَيْضًا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ لِمَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْمِلْكِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ الْوَطْءُ إنْ أَمْكَنَ لَا لِلْمِلْكِ وَهَذَا حَقٌّ؟ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلْآبِقِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَا يَجُوزُ الْأَخِيرُ لِانْتِقَاضِهِ بِالنَّاشِزَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْعِلَّةُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَمَنْ تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي عَقِيبَ إبْطَالِ الْأَقْسَامِ لِئَلَّا يَكُونَ مُبَرَّأً، فَلَمَّا أَثْبَتْنَا الْمُنَاسَبَةَ بِظُهُورِ الْأَثَرِ لَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ السَّبْرِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إثْبَاتٌ عَلَيْهِ مَا عَيَّنَّاهُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ وَإِبْطَالِ مَا عَيَّنُوهُ.
هَذَا وَقَدْ نُقِضَ بِالرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَاَلَّتِي أَصَابَهَا مَرَضٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَالْكَبِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا لِكِبَرِهَا فَإِنَّ لَهُنَّ النَّفَقَةَ وَلَا احْتِبَاسَ لِلْوَطْءِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ احْتِبَاسٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الزَّوْجُ انْتِفَاعًا مَقْصُودًا بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الدَّوَاعِي وَالِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ الدَّوَاعِي مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامِعُ مِثْلَهَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً أَصْلًا فَلَا تُجَامَعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ حَتَّى إنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَسْتَنْكِرُ جِمَاعَ الرَّضِيعَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ فِي الْعَجُوزِ وَالْمَرِيضَةِ.
قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُشْتَهَاةً يُمْكِنُ جِمَاعُهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَجِبُ النَّفَقَةُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى مَنْ قَيَّدَ الصَّغِيرَةَ بِكَوْنِهَا لَا تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ فَرْضُ مُحَالٍ، لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِحَيْثُ تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً لِلْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
نَعَمْ هُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قولنَا الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا هَلْ مَعْنَاهُ لَا تُشْتَهَى لِلْوَطْءِ أَوْ لَا تُطِيقُ الْوَطْءَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُلَازَمَةُ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِنْ ثَبَتَ التَّلَازُمُ بَيْنَ عَدَمِ الْإِطَاقَةِ وَعَدَمِ الِاشْتِهَاءِ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضٌ صَحِيحٌ.
وَالظَّاهِرُ التَّلَازُمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ضَمُّ الْإِطَاقَةِ مُطْلَقًا وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الْوَطْءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَهِيَ مُطِيقَةٌ لِلْجِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ تُطِقْهُ مِنْ خُصُوصِ زَوْجٍ مَثَلًا فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَمَنْ لَا فَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ.
وَفِي خِزَانَةِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: عَشْرٌ مِنْ النِّسَاءِ لَا نَفَقَةَ لَهُنَّ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، وَالنَّاشِزَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، وَإِذَا اغْتَصَبَهَا ظَالِمٌ فَذَهَبَ بِهَا، وَالْمَحْبُوسَةُ فِي دَيْنٍ، وَالْمُسَافِرَةُ بِحَجٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجُهَا، وَالْأَمَةُ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا مَوْلَاهَا، وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَالْمُرْتَدَّةُ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْمَرْأَةُ إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِهِ فَصَارَ كَالْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا إلَخْ) ذَكَرَ حُكْمَ الْعَجْزِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ لَا يُطِيقَانِ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَهُ تَجِبُ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَهَا لَا تَجِبُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ كَالْمَعْدُومِ فَالْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهَا قَائِمٌ وَمَعَهُ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: إذَا تَزَوَّجَ الْمَجْبُوبُ صَغِيرَةً لَا تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ لَا يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً، وَلَا يَخْفَى إمْكَانُ عَكْسِ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: يُجْعَلُ الْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمَعْدُومِ فَتَجِبُ إلَى آخِرِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ إلَّا لِتَسْلِيمِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا الْمَقْصُودَةِ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ فَيَدُورُ وُجُوبُهَا مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَلَا تَجِبُ فِي الصَّغِيرَيْنِ وَتَجِبُ فِي الْكَبِيرَةِ تَحْتَ الصَّغِيرِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا حُبِسَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَيْنٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا بِالْمُمَاطَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا بِأَنْ كَانَتْ عَاجِزَةً فَلَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَا إذَا غَصَبَهَا رَجُلٌ كُرْهًا فَذَهَبَ بِهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ لَيْسَ مِنْهُ لِيُجْعَلَ بَاقِيًا تَقْدِيرًا، وَكَذَا إذَا حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ لِأَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ عُذْرٌ، وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَافَرَ مَعَهَا الزَّوْجُ تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ لِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ، وَلَا يَجِبُ الْكِرَاءُ لِمَا قُلْنَا (فَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَلَهَا النَّفَقَةُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ لِفَوْتِ الِاحْتِبَاسِ لِلِاسْتِمْتَاعِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَيَمَسُّهَا وَتَحْفَظُ الْبَيْتَ، وَالْمَانِعُ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ مَرِضَتْ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ، وَلَوْ مَرِضَتْ ثُمَّ سَلَّمَتْ لَا تَجِبُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يَصِحَّ قَالُوا هَذَا حَسَنٌ.
وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَهَا النَّفَقَةُ) أَيْ فِي صُورَتَيْ حَبْسِهَا وَغَصْبِهَا لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ جِهَتِهَا، وَاخْتَارَهُ السُّغْدِيُّ وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ الِاحْتِبَاسُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ جُعِلَ بَاقِيًا تَقْدِيرًا فَتَجِبُ مَعَ فَوَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيرًا قَائِمًا فَفَاتَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ الْمُوجِبُ لَيْسَ غَيْرُ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ غَصَبَ الْعَيْنَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجَرِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْآجِرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حُبِسَ هُوَ ظُلْمًا أَوْ فِي حَقٍّ يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَوْ هَرَبَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ أَسْلَمَتْ وَأَبَى هُوَ الْإِسْلَامَ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَكَذَا كُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِحَقٍّ لَا تُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَالْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ لِفَوَاتِهِ مِنْ جِهَتِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَمُّدٌ فِيهِ.
قولهُ: (وَكَذَا إلَخْ) أَيْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّتْ مَعَ الزَّوْجِ فَإِنَّ لَهَا النَّفَقَةُ اتِّفَاقًا.
قولهُ: (لِأَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ عُذْرٌ) قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَتِهَا وَالِاحْتِبَاسُ الْفَائِتُ إنَّمَا يُجْعَلُ بَاقِيًا تَقْدِيرًا إذَا كَانَ الْفَوَاتُ مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مَا كَانَ قِيمَةَ الطَّعَامِ فِي الْحَضَرِ فَيَجِبُ دُونَ نَفَقَةِ السَّفَرِ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِحَقِّهَا بِإِزَاءِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهَا فَلَا تَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ كَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَسْتَحِقُّ الْمُدَاوَاةَ عَلَيْهِ.
(قولهُ لِمَا قُلْنَا) أَيْ مِنْ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَضَرِ هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ.
قولهُ: (وَيَمَسُّهَا) أَيْ وَيَمَسُّهَا اسْتِمْتَاعًا وَيَدْخُلُ فِي مَسِّهَا كَذَلِكَ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ الِاحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ قَائِمًا، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِحُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِالدَّوَاعِي وَالِاسْتِئْنَاسِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (قَالُوا هَذَا حَسَنٌ. وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ) وَهُوَ قولهُ وَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا صَحِيحَةً ثُمَّ طَرَأَ الْمَرَضُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ إشَارَةَ الْكِتَابِ هَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي مَنْزِلِهِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ قولهِ النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ مُخْتَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَيْسَ الْفَتْوَى عَلَيْهِ، بَلْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ تَعْلِيقُهَا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ يَقَعْ نُشُوزٌ فَالْمُسْتَحْسِنُونَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ هُمْ الْمُخْتَارُونَ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذِهِ فَرْعِيَّتُهَا، وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِبَاسِ لِاسْتِيفَاءِ مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ الِاسْتِئْنَاسِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالدَّوَاعِي وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
قَالَ فِي الْأَصْلِ: نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ مَرِضَتْ أَوْ جُنَّتْ أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ يَمْنَعُ عَنْ الْجِمَاعِ أَوْ كَبِرَ حَتَّى لَا يُسْتَطَاعَ جِمَاعُهَا.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إذَا كَبِرَتْ وَلَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ أَوْ بِهَا رَتْقٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ قَرْنٌ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ.
وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: قَالُوا إذَا مَرِضَتْ مَرَضًا لَا يُمَكِّنُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَ مَرَضًا يُمَكِّنُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِنَوْعِ انْتِفَاعٍ لَا تَسْقُطُ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْأَوَّلِ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ تَجِبُ.
وَفِي الْأَقْضِيَةِ: لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ تَجِبُ.
وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: سَوَاءٌ أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْعَوَارِضُ بَعْدَمَا انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ قَبْلَهُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً نَفْسَهَا، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا نَفَقَةَ لِلرَّتْقَاءِ وَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا، وَإِنْ انْتَقَلَتْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ يَرُدُّهَا إلَى أَهْلِهَا، أَمَّا إذَا نَقَلَهَا هُوَ إلَى بَيْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَا يَرُدُّهَا إلَى أَهْلِهَا انْتَهَى، كُلُّهُ مِنْ الْخُلَاصَةِ.
وَبِهِ يَظْهَرُ لَك مَا حَكَمْنَا بِهِ فِيمَنْ اخْتَارَ قول أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الَّتِي مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِهِ إذَا تَطَاوَلَ مَرَضُهَا تُعْتَبَرُ كَالرَّتْقَاءِ فِيهَا.

متن الهداية:
(قَالَ: وَيُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَنَفَقَةُ خَادِمِهَا) الْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَتُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ مُوسِرًا نَفَقَةُ خَادِمِهَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ كِفَايَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِهَا إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ (وَلَا يُفْرَضُ لِأَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَصَالِحِ الدَّاخِلِ وَإِلَى الْآخَرِ لِمَصَالِحِ الْخَارِجِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِالْأَمْرَيْنِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى كِفَايَتَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ كَافِيًا، فَكَذَا إذَا أَقَامَ الْوَاحِدُ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَقَالُوا: إنَّ الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَةِ الْخَادِمِ مَا يَلْزَمُ الْمُعْسِرُ مِنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ وَهُوَ أَدْنَى الْكِفَايَةِ.
وَقولهُ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ مُوسِرًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عِنْدَ إعْسَارِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُعْسِرِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَهِيَ قَدْ تَكْتَفِي بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ. إلَخْ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ عَنْ تَكْرَارِ نَفَقَتِهَا وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ أَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَصْلًا لِيَحْتَاجَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا بَيَانُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَبَيَانُ وُجُوبِهَا وَوُجُوبُهَا لَيْسَ نَفْسَ بَيَانِ جَوَازِ الْفَرْضِ لِلْقَاضِي وَلَا جَوَازُهُ لَهُ وَلَا هُوَ مَلْزُومُهُ فَإِنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَتَخَلَّفُ مَعَ قِيَامِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِدَلِيلِ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ.
الرَّجُلُ إذَا كَانَ صَاحِبَ مَائِدَةٍ وَطَعَامٍ كَثِيرٍ تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ التَّنَاوُلِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِفَرْضِ النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تُفْرَضُ إذَا طُلِبَتْ فَأَفَادَ مَا قُلْنَا، ثُمَّ إذَا فُرِضَ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَلِي الْإِنْفَاقَ إلَّا إذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي مَطْلُهُ فَحِينَئِذٍ تُفْرَضُ النَّفَقَةُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ يُعْطِ حَبَسَهُ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَقَيَّدَ الْيَسَارُ أَثَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ نَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ الْخَادِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَنْتَفِي الْفَرْضُ لَكِنْ بِانْتِفَاءِ فَرْضِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي الْفَرْضِ الْأَصْلَحُ وَالْأَيْسَرُ، فَفِي الْمُحْتَرِفِ يَوْمًا يَوْمًا: أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِ نَفَقَةِ شَهْرٍ مَثَلًا دُفْعَةً، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا مُعَجِّلًا، وَيُعْطِيَهَا كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ الْمَسَاءَ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّرْفِ فِي حَاجَتِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا يُفْرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، أَوْ مِنْ الدَّهَّاقِينَ فَنَفَقَةُ سَنَةٍ بِسَنَةٍ، أَوْ مِنْ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ لَا يَنْقَضِي عَمَلُهُمْ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْأُسْبُوعِ كَذَلِكَ.
وَلَوْ فُرِضَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ حَالِهِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إعْطَاءِ الزَّائِدِ، وَفِي الْأَقْضِيَةِ يُفْرَضُ الْإِدَامُ أَيْضًا أَعْلَاهُ اللَّحْمُ وَأَدْنَاهُ الزَّيْتُ وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنُ، وَقِيلَ فِي الْفَقِيرَةِ: لَا يُفْرَضُ الْإِدَامُ إلَّا إذَا كَانَ خُبْزَ شَعِيرٍ، وَالْحَقُّ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِهِمْ، وَيُعْتَبَرُ فِيمَا عَلَى الزَّوْجِ الْحَطَبُ وَالصَّابُونُ وَالْأُشْنَانُ وَالدُّهْنُ لِلِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ وَثَمَنُ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً تَسْتَأْجِرُ مَنْ يَنْقُلَهُ وَلَا تَنْقُلُهُ بِنَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَإِمَّا أَنْ يَنْقُلَهُ الزَّوْجُ لَهَا أَوْ يَدَعَهَا تَنْقُلُ بِنَفْسِهَا، وَثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْفَتَاوَى لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْجِمَاعِ، وَفِي كِتَابِ رَزِينٍ جَعَلَهُ عَلَيْهَا، وَفَصَلَ فِي مَاءِ الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ، وَأُجْرَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْجِمَاعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول عَلَيْهَا كَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ.
وَفِي الْمُحِيطِ: إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَالَ: اُحْسُبُوا لَهَا مِنْهُ نَفَقَتَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ حَيْثُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاصَّاهُ.
وَتُفْرَضُ الْكِسْوَةُ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا الْكِسْوَةَ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِهَا قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالْكِسْوَةُ كَالنَّفَقَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى الْقَاضِي لِيَأْمُرَهَا بِلُبْسِ الثَّوْبِ.
لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ، وَإِذَا فُرِضَ لَهَا كِسْوَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَخَرَّقَتْ قَبْلَ مُضِيِّهَا إنْ لَبِسَتْ لُبْسًا مُعْتَادًا تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكْفِهَا فَتُجَدِّدُ لِتُبَيِّنَ خَطَأَهُ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِنْ تَخَرَّقَتْ لِخَرْقِ اسْتِعْمَالِهَا لَا يُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى، وَلَوْ سُرِقَتْ الْكِسْوَةُ أَوْ هَلَكَتْ النَّفَقَةُ لَا يُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ، وَلَوْ لَمْ تَلْبَسْ حَتَّى مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ تُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ تَلْبَسُ يَوْمًا وَتَتْرُكُ يَوْمًا تَوْفِيرًا يُجَدِّدُ لَهَا الْكِسْوَةَ إذَا فَرَغَ الْفَصْلُ، وَلَوْ لَبِسَتْ دَائِمًا وَلَمْ تَتَخَرَّقْ لَمْ يُجَدِّدْ لَهَا إذَا فَرَغَ الْفَصْلُ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا دَرَاهِمَ فَبَقِيَتْ كُلُّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الشَّهْرِ الْآخَرِ أَيْضًا يُفْرَضُ وَفِي الْمَحَارِمِ لَا يُفْرَضُ.
وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ يُفْرَضُ قَمِيصٌ وَمُقَنِّعَةٌ وَمِلْحَفَةٌ.
وَتُزَادُ فِي الشِّتَاءِ سَرَاوِيلَ وَجُبَّةً بِاعْتِبَارِ عُسْرَتِهِ وَيَسْرَتِهِ.
ذَكَرَ الْخَصَّافُ السَّرَاوِيلَ فِي كِسْوَةِ الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ أَصْلًا.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَمْ يُوجِبْ مُحَمَّدٌ الْإِزَارَ لِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا لَهَا الْمُكَعَّبَ وَالْخُفَّ انْتَهَى.
وَقِيلَ اخْتِلَافُ عُرْفٍ وَالْعُرْفُ إيجَابُ السَّرَاوِيلِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ لِلُبْسِهِ فِي الْبَيْتِ، فَالْقَاضِي يَنْظُرُ إلَى عُرْفِ كُلِّ قَوْمٍ فَيَفْرِضُ بِالْعُرْفِ، فَعَلَى الْمُعْسِرِ قَالَ مُحَمَّدٌ: دِرْعٌ يَهُودِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ زَطِّيَةٌ وَخِمَارٌ سَابُورِيٌّ أَرْخَصُ مَا يَكُونُ مِمَّا يُدْفِئُهَا فِي الشِّتَاءِ، وَعَلَى الْمُوسِرِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ أَوْ هَرَوِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ دِينَوَرِيَّةٌ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ وَكِسَاءٌ أَذْرَبِيجَانِيُّ، وَلَهَا فِي الصَّيْفِ دِرْعٌ سَابُورِيٌّ وَمِلْحَفَةُ كَتَّانٍ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ، فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الدِّرْعَ وَالْخِصَافَ وَالْقَمِيصَ وَهُمَا سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ الْقَمِيصَ يَكُونُ مُجَيَّبًا مِنْ قِبَلِ الْكَتِفِ وَالدِّرْعَ مِنْ قِبَلِ الصَّدْرِ، وَيَجِبُ لَهَا فِي الشِّتَاءِ اللِّحَافُ وَفِرَاشُ النَّوْمِ، وَفِي كِسْوَةِ الْخَادِمِ ذَكَرُوا الْإِزَارَ وَالْخُفَّ وَالْمُكَعَّبَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ هَذَا فِي دِيَارِهِمْ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، أَمَّا فِي دِيَارِنَا يُفْرَضُ الْمُكَعَّبُ وَيُفْرَضُ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا فِرَاشٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا يَكْتَفِي بِفِرَاشٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، لِأَنَّهَا قَدْ تَنْفَرِدُ فِي الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، وَفِي الْأَثَرِ: فِرَاشٌ لَك وَفِرَاشٌ لِأَهْلِك وَفِرَاشٌ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَان.
وَإِذَا أَرْسَلَ ثَوْبًا فَاخْتَلَفَا فَقَالَتْ هَدِيَّةٌ وَقَالَ مِنْ الْكِسْوَةِ فَالْقول لَهُ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْآخَرِ أَوْ عَلَى نَفْسِ مُدَّعَاهُ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْقَضَاءِ، وَكَذَا فِي دَرَاهِمَ فَقَالَتْ هَدِيَّةٌ وَقَالَ: نَفَقَةٌ أَوْ قَالَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ نَفَقَةٌ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ قَضَاءِ الدُّيُونِ إذَا كَانَتْ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
قولهُ: (وَوَجْهُهُ أَنَّ كِفَايَتَهَا إلَخْ) ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ثُمَّ هَلْ يُرَادُ بِالْخَادِمِ مَمْلُوكُهَا أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَمْلُوكُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَا تَسْتَحِقُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ مَنْ يَخْدُمُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: لَوْ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ وَنَفَقَةُ الْخَادِمِ لِبَنَاتِ الْأَشْرَافِ، وَيُوَافِقُهُ مَا قَيَّدَ بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ كَلَامَ الْخَصَّافِ حَيْثُ قَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: فَرَضَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّقِيقِ وَالدُّهْنِ وَاللَّحْمِ وَالْإِدَامِ فَقَالَتْ: لَا أَخْبِزُ وَلَا أَعْجِنُ وَلَا أُعَالِجُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَكْفِيهَا عَمَلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ: هَذَا إذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا وَتَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِمَنْ يَفْعَلُهُ.
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا تُجْبَرُ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ تَطْبُخْ لَا يُعْطِيهَا الْإِدَامَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً، وَلَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِخَادِمَيْنِ) وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَوَجْهُ الدَّفْعِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
قولهُ: (وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى) أَيْ الزَّوْجُ كِفَايَتَهَا بِنَفْسِهِ خِدْمَةً كَانَ كَافِيًا قَدْ يُمْنَعُ هَذَا عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَقْضِيَةِ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنَا أَخْدُمُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُقْبَلُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إذَا كَانَتْ فَائِقَةً فِي الْغِنَى زُفَّتْ إلَيْهِ مَعَ خَدَمٍ كَثِيرٍ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْكُلِّ عَلَيْهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَاخْتَارَهَا الطَّحَاوِيُّ.
قولهُ: (خِلَافًا لِمَا يَقولهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا خَادِمٌ يُفْرَضُ لَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَكْتَفِ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَيُفْرَضُ وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا بِحَيْثُ تَكْتَفِي بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا الْخَادِمُ لِزِيَادَةِ التَّنَعُّمِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حَالَةُ الْيَسَارِ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى الْكِفَايَةِ فَقَطْ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ لُزُومِ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا، وَأَنَّهُ عِنْدَ إعْسَارِهِ دُونَهَا يُنْفِقُ بِقَدْرِ حَالِهِ وَالْبَاقِي دَيْنٌ عَلَيْهِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ خَادِمٌ لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَتُهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِدَفْعِ حَاجَتِهَا وَحَاجَتُهَا إلَى نَفَقَةِ الْخَادِمِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَصَارَ كَالْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ لَا يَسْتَحِقُّ كِفَايَةَ الْخَادِمِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالْغَازِي إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِلَا فَرَسٍ وَأَغْنَى غِنَاءَ الْفَارِسِ لَا يُسْهِمُ لَهُ سَهْمَ الْفَرَسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَوْلَادٌ لَا يَكْفِيهِمْ خَادِمٌ وَاحِدٌ فَرَضَ عَلَيْهِ لِخَادِمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا.
وَفِي التَّجْنِيسِ: امْرَأَةٌ لَهَا مَمَالِيكُ قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْفِقْ عَلَيْهِمْ مِنْ مَهْرِي فَأَنْفَقَ فَقَالَتْ: لَا أَجْعَلُهَا مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّك اسْتَخْدَمْتهمْ، فَمَا أَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ بِأَمْرِهَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ لَهَا اسْتَدِينِي عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفَرَّقُ، لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ أَقْوَى.
وَلَنَا أَنَّ حَقَّهُ يَبْطُلُ وَحَقَّهَا يَتَأَخَّرُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الضَّرَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَصِيرُ دَيْنًا بِفَرْضِ الْقَاضِي فَتَسْتَوْفِي الزَّمَانَ الثَّانِي، وَفَوْتُ الْمَالِ وَهُوَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّنَاسُلُ.
وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ مَعَ الْفَرْضِ أَنْ يُمَكِّنَهَا إحَالَةَ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ إلَخْ) بِقولنَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَابْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالظَّاهِرِيَّةُ؛ وَمَعْنَى الِاسْتِدَانَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ الطَّعَامَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّوْجُ ثَمَنَهُ.
وَقَالَ الْخَصَّافُ: الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ لِيَقْضِيَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَبِقول الشَّافِعِيِّ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ قولهِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ كَقولنَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ الْعَجْزُ عَنْ الْكِسْوَةِ وَالْعَجْزُ عَنْ الْمَسْكَنِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ فَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ طَلَاقٌ عِنْدَ مَالِكٍ.
وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ الْيُسْرِ لَمْ يُفَرَّقْ، وَيَبِيعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَيَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالَهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَلَا يَفْسَخُ، وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، أَمَّا إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يَخْلُفْ لَهَا نَفَقَةً فَرَفَعَتْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَكَتَبَ الْقَاضِي إلَى عَالِمٍ يَرَى التَّفْرِيقَ بِالْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ؟ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ: نَعَمْ إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ النَّفَقَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: فِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يُعْرَفُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَيَكُونُ هَذَا تَرْكَ الْإِنْفَاقِ لَا الْعَجْزَ عَنْهُ، فَإِنْ رَفَعَ هَذَا الْقَضَاءَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَمْضَاهُ جَازَ قَضَاؤُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ لَيْسَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَثْبُتْ ذِكْرُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ فُصُولِ الْإِمَامِ الْأُسْرُوشَنِيِّ فَتَكُونُ الشُّهُودُ عَلِمَتْ مَجَازَهُ مُجَازَفَتَهُمْ فَلَا يَقْضِي بِهَا كَمَا ذَكَرَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَسْخَ إذَا غَابَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً يُمْكِنُ بِغَيْرِ طَرِيقِ إثْبَاتِ عَجْزِهِ بِمَعْنَى فَقْرِهِ لِيَجِيءَ مَا قَالَ وَهُوَ أَنْ تَتَعَذَّرَ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا بِغَيْبَتِهِ ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ.
قَالَ فِي الْحِلْيَةِ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ فَلَا يَلْزَمُ مَجِيءُ مَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ عَجَزَ إلَخْ) اسْتَدَلُّوا بِالْمَنْقول وَالْمَعْقول، أَمَّا الْمَنْقول فَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَال: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَقِيلَ مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: امْرَأَتُكَ تَقول أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي، خَادِمُكَ يَقول أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَلَدُكَ يَقول أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَتْرُكُنِي» هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ النَّسَائِيّ وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدٌ وَمُحَمَّدٌ ثِقَتَانِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فُرُوخٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «الْمَرْأَةُ تَقول لِزَوْجِهَا أَطْعِمْنِي أَوْ طَلِّقْنِي» الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمَاكُ وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبَارُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت سُنَّةٌ؟ قَالَ سُنَّةٌ.
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيُّ يَقول بِهَا وَأَنْتُمْ تَقولونَ بِالْمُرْسَلِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمَعْقول فَالْقِيَاسُ عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْبَدَنَ يَبْقَى بِلَا وَطْءٍ وَلَا يَبْقَى بِلَا قُوتٍ، وَأَيْضًا مَنْفَعَةُ الْجِمَاعِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا؛ فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْمُشْتَرَكِ جَوَازُ الْفَسْخِ لِعَدَمِهِ فَفِي الْمُخْتَصِّ بِهَا أَوْلَى، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَرْقُوقِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ إذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهِ.
قولهُ: (وَلَنَا) الْمَنْقول وَالْمَعْنَى، أَمَّا الْمَنْقول فَقولهُ تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَغَايَةُ النَّفَقَةِ أَنْ تَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ أَعْسَرَ بِهَا الزَّوْجُ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مَأْمُورَةً بِالْإِنْظَارِ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ فِي إلْزَامِ الْفَسْخِ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَفِي إلْزَامِ الْإِنْظَارِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ تَأْخِيرَ حَقِّهَا دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا كَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى، وَبِهِ فَارَقَ الْجَبَّ وَالْعُنَّةَ وَالْمَمْلُوكَ لِأَنَّ حَقَّ الْجِمَاعِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمَالِكِ، وَيَخُصُّ الْمَمْلُوكُ أَنَّ فِي إلْزَامِ بَيْعِهِ إبْطَالَ حَقِّ السَّيِّدِ إلَى خَلْفٍ هُوَ الثَّمَنُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهِ كَانَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِينَ فِي إلْزَامِهِ بَيْعَهُ، إذْ فِيهِ تَخْلِيصُ الْمَمْلُوكِ مِنْ عَذَابِ الْجُوعِ وَحُصُولِ بَدَلِهِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ لِلسَّيِّدِ، بِخِلَافِ إلْزَامِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّهُ إبْطَالُ حَقِّهِ بِلَا بَدَلٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَعْتِقْهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قولهِ: إنَّهُ سُنَّةٌ فَلَعَلَّهُ لَا يُرِيدُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ إطْلَاقُ مِثْلِ ذَلِكَ غَيْرَ مُرِيدٍ بِهِ ذَلِكَ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقول الْمَرْأَةُ فِي الْأَرْشِ كَالرَّجُلِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحَالُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ.
قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: مَا تَقول فِيمَنْ قَطَعَ إصْبَعَ امْرَأَةٍ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ، قَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثًا، قَالَ: ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعًا مِنْ أَصَابِعِهَا، قَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا.
قَالَ: إنَّهُ السُّنَّةُ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَمَّى قولهُ سُنَّةً فَيَكُونُ مَا قَالَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ كَقولنَا فَاضْطَرَبَ الْمَرْوِيُّ مِنْهُ فَبَطَلَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ رَفْعَهُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قول أَبِي هُرَيْرَةَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى» وَفِي لَفْظٍ: «مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقول الْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقول الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقول الْوَلَدُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِلَا شُبْهَةٍ، ثُمَّ لَيْسَ فِي قول أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُ بِالطَّلَاقِ، وَكَيْف وَهُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مِنْهُ لَا يَخُصُّ الْمُعْسِرَ وَلَا الْمُوسِرَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا لَمْ يُطْعَمْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْفِرَاقِ بَلْ يُحْبَسُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَيْنًا وَهُوَ الِاتِّفَاقُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِرْشَادَ إلَى مَا يَنْبَغِي مِمَّا يُدْفَعُ بِهِ ضَرَرُ الدُّنْيَا، مِثْل: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِنَفَقَةِ الْعِيَالِ وَإِلَّا قَالُوا لَك مِثْلَ ذَلِكَ وَشَوَّشُوا عَلَيْك إذَا اسْتَهْلَكْت النَّفَقَةَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ مِثْلَهُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِثْلَ مَا يَلِيهِ مِنْ قول سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَلْ مِثْلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَرِوَايَتِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ.
قولهُ: (إحَالَةُ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ.
وَفِي التُّحْفَةِ: فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنَهُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ وَبِدُونِهِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ لَيْسَ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بَلْ عَلَيْهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ إيجَابُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الصَّحِيحِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَحْدَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ: الْمَرْأَةُ الْمُعْسِرَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ مُوسِرًا وَأَخٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ وَيُحْبَسُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ إنْ امْتَنَعَ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ.
قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِدَانَةَ لِنَفَقَتِهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَهِيَ مُعْسِرَةٌ تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُعْسِرِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَفَقَتِهِمْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ لَوْلَا الْأَبُ كَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِنَفَقَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَخَاصَمَتْهُ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْمُوسِرِ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَمَا قَضَى بِهِ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ، فَإِذَا تَبَدَّلَ حَالُهُ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِتَمَامِ حَقِّهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْيَسَارِ) هَكَذَا مَشَى عَلَيْهِ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَنْزِ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ شَارِحُهُ بِأَنَّهُ نَوْعُ تَنَاقُضٍ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْبَابِ قول الْخَصَّافِ ثُمَّ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى قول الْكَرْخِيِّ، وَلَوْ كَانَ فَرَضَ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالِهَا مِقْدَارًا ثُمَّ غَلَا السِّعْرُ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الْفَرْضِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْقُصَ.
قولهُ: (وَمَا قَضَى بِهِ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَقَرَّرُ حُكْمُ الْقَاضِي فِيهَا بِخُصُوصِ مِقْدَارٍ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ الْإِعْسَارِ وَعَلَى تَقْدِيرِهِ وَقَدْ زَالَ فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ لَمْ يُنْفِقْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَطَالَبَتْهُ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ لَوْ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى مِقْدَارٍ فِيهَا فَيَقْضِي لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى) لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِوَضٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَلَا يُسْتَحْكَمُ الْوُجُوبُ فِيهَا إلَّا بِالْقَضَاءِ كَالْهِبَةِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ الْقَبْضُ وَالصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا) بِأَنْ غَابَ عَنْهَا أَوْ كَانَ حَاضِرًا وَامْتَنَعَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِفَرْضٍ أَوْ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى مِقْدَارٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا إذَا لَمْ يُعْطِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ إلَّا إنْ كَانَتْ أَكَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمُضِيِّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا صِلَةٌ) أَيْ مِنْ وَجْهٍ.
قولهُ: (وَلَيْسَتْ بِعِوَضٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هِيَ عِوَضٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ احْتِبَاسٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِصْلَاحِ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ هِيَ عِوَضٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ الشَّرْعِ وَأُمُورٍ مُشْتَرَكَةٍ كَإِعْفَافِ كُلِّ الْآخَرِ وَتَحْصِينِهِ عَنْ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَتَحْصِيلِ الْوَلَدِ لِيُقِيمَ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ صِلَةٌ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي فَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلِاعْتِبَارِ أَنَّهَا عِوَضٌ قُلْنَا تَثْبُتُ إذَا قَضَى بِهَا أَوْ اصْطَلَحَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَعْلَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَلِاعْتِبَارِ أَنَّهَا صِلَةٌ قُلْنَا تَسْقُطُ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا اصْطِلَاحٍ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مَعْزُوًّا إلَى الذَّخِيرَةِ أَنَّ نَفَقَةَ مَا دُونَ الشَّهْرِ لَا تَسْقُطُ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، إذْ لَوْ سَقَطَتْ بِمُضِيٍّ يَسِيرٍ مِنْ الزَّمَانِ لَمَا تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ أَصْلًا وَهَذَا حَقٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَجْهُ.
وَقولهُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يُسْتَحْكَمُ الْوُجُوبُ فِيهَا إلَّا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا حَمَلْنَا كَلَامَهُ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ أَنَّهُ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تَرَدُّدِهَا بَيْنَ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ وَالْعِوَضِ الْمَحْضِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ الْقول قول الزَّوْجِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ، وَمَنْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُنْكِرُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُكَذَّبَةً شَرْعًا وَكَذَا الزَّوْجُ وَإِلَّا فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَار وَفَتْحِ بَابِ الْفَسَادِ خُصُوصًا عِنْدَ اضْطِرَارِهَا لِلنَّفَقَةِ مَعَ حَبْسِهَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَمَضَى شُهُورٌ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ) وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الزَّوْجَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْهِبَةِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصِيرُ دَيْنًا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عِنْدَهُ فَصَارَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَجَوَابُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَمَضَى شُهُورٌ سَقَطَتْ) هَذَا تَقْيِيدٌ لِعَدَمِ السُّقُوطِ بِالْقَضَاءِ بِحَالَةِ حَيَاتِهِمَا وَأَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ الْقَاضِي أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهَا فَوَافَقَ قول الْخَصَّافِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَمْرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهِ عِنْدَ رَفْعِ قَضِيَّتِهَا لَهُ وَهُوَ الْقَاضِي فَكَانَ كَاسْتِدَانَتِهِ: أَيْ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ سُقُوطُهَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ بِالطَّلَاقِ وَالصَّحِيحُ لَا تَسْقُطُ.
قولهُ: (لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ اسْتَحْكَمَ هَذَا الدَّيْنَ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَجَعَلْتُمُوهُ مُؤَكَّدًا لِلِاسْتِحْقَاقِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى الْوُجُوبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ بِالْقَضَاءِ لَا يَبْطُلُ مَعْنَى الصِّلَةِ بَلْ يُوجِبُ تَأَكُّدَ هَذِهِ الصِّلَةِ فَتَصِيرُ الصِّلَةُ كَغَيْرِ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الصِّلَةِ بَاقِيًا أَثَّرَ الْمَوْتُ فِي سُقُوطِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ أَقْوَى فِي إبْطَالِهِ الصِّلَةَ فَيَحْتَاجُ لِلِاسْتِحْكَامِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَى زِيَادَةٍ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ تَبْطُلْ الْأَهْلِيَّةُ فَيُسْتَحْكَمُ بِمُجَرَّدِ التَّأَكُّدِ بِالْقَضَاءِ بِهَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ أَسْلَفَهَا نَفَقَةَ السَّنَةِ) أَيْ عَجَّلَهَا (ثُمَّ مَاتَ) (لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، يُحْتَسَبُ لَهَا نَفَقَةُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلزَّوْجِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهَا اسْتَعْجَلَتْ عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِبَاسِ، وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْمَوْتِ فَيَبْطُلُ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَعَطَاءِ الْمُقَاتَلَةِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ صِلَةٌ وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَلَا رُجُوعَ فِي الصِّلَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهَا كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ لَا يُسْتَرَدُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا إذَا قَبَضَتْ نَفَقَةَ الشَّهْرِ أَوْ مَا دُونَهُ لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْحَالِ.
الشَّرْحُ:
فَرْعٌ:
إبْرَاءُ الزَّوْجَةِ مِنْ النَّفَقَةِ هَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ؟ إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فَرَضَهَا كُلَّ شَهْرٍ كَذَا وَكَذَا صَحَّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَةِ سَنَةٍ لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ شَهْرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرَضَ لَهَا كُلَّ سَنَةٍ كَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ كَذَا كُلَّ شَهْرٍ فَإِنَّمَا فَرَضَ مَهْمَا يَتَجَدَّدُ الشَّهْرُ فَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَمْ يَتَجَدَّدْ الْفَرْضُ، وَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ الْفَرْضُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الشَّهْرِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا.
وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ بَعْدَمَا مَضَى أَشْهُرٌ عَمَّا مَضَى وَعَمَّا يَسْتَقْبِلُ بَرِئَ عَمَّا مَضَى وَعَنْ شَهْرٍ.
قولهُ: (وَمَا بَقِيَ لِلزَّوْجِ) فَتَرُدُّهُ، وَكَذَا تَرُدُّ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ وَلَا تَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا، وَالْمَوْتُ وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ، وَفِي نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ تَرُدُّ، وَقِيلَ لَا تَسْتَرِدُّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَائِمَةٌ فِي مَوْتِهِ كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ.
قولهُ: (وَلَا رُجُوعَ فِي الصِّلَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ) بِخِلَافِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَالنَّظَرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُعْطِي لِمَنْ يَلِي بَعْدَهُ مِنْ الْقُضَاةِ.
قولهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْهُ: لَا تَرُدُّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ، فَلِهَذَا وَضَعَهَا فِي السُّنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا خِلَافٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلِذَا لَوْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ أَشْهُرٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْبَاقِي شَهْرٌ فَأَقَلُّ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَنَفَقَةِ النِّكَاحِ، فَلَوْ فَرَضَ لَهَا نَفَقَةً فِيهَا فَلَمْ تَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ.
وَهَلْ يُقَاسُ عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: فِيهِ كَلَامٌ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ الْحُلْوَانِيِّ قَالَ: الْمُخْتَارُ عِنْدِي لَا تَسْقُطُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً فَنَفَقَتُهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ يُبَاعُ فِيهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَدَيْنِ التِّجَارَةِ فِي الْعَبْدِ التَّاجِرِ، وَلَهُ أَنْ يَفْدِيَ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ لَا فِي عَيْنِ الرَّقَبَةِ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ سَقَطَتْ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَنَفَقَتُهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ) أَيْ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا فَيُبَاعُ فِيهَا، فَإِذَا اشْتَرَاهُ مَنْ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ عَلِمَ فَرَضِيَ ظَهَرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَرَّةً أُخْرَى يُبَاعُ ثَانِيًا، وَكَذَا حَالُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَلَا يُبَاعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَّا فِي دَيْنِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ تَجَدُّدِ الزَّمَانِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَيْنٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِحَالِهِ أَوْ عَلِمَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَرْضَ فَلَهُ رَدُّهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ اطَّلَعَ عَلَيْهِ.
قولهُ: (إذَنْ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ لِعَدَمِ الصِّحَّةِ، وَدَخَلَ بِهَا طُولِبَ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَرْضِ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ وَالْمَهْرُ وَلَا يُطَالَبْ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ وَلَا يُبَاعُ بِالنَّفَقَةِ بِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ يُبَاعُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبِلَ النَّقْلَ، هَذَا وَلَا نَفَقَةَ تَجِبُ لِوَلَدِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْوَلَدُ عَبْدٌ لِمَوْلَاهَا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى مَمْلُوكٍ وَلَا عَلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّ وَلَدَهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ امْرَأَتُهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا كَانَتْ امْرَأَةُ الْمُكَاتَبِ مُكَاتَبَةً وَهُمَا لِمَوْلًى وَاحِدٍ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي كِتَابَتِهَا حَتَّى كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ لَهَا، وَكَذَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.
قولهُ: (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا خَلْفُهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تُبْطِلُ الْمَوْتَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْقِيمَةُ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي دَيْنٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً فَبَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَعَهُ مَنْزِلًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ) لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ الِاحْتِبَاسُ (وَإِنْ لَمْ يُبَوِّئْهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ، وَالتَّبْوِئَةُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَسْتَخْدِمَهَا، وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا بَعْدَ التَّبْوِئَةِ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ فَاتَ الِاحْتِبَاسُ، وَالتَّبْوِئَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ خَدَمَتْهُ الْجَارِيَةُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْدِمْهَا لِيَكُونَ اسْتِرْدَادًا، وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً) قَيْدُ الْحُرِّ اتِّفَاقِيٌّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَبْلَ التَّبْوِئَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذَّكَرِ لِيَعْلَمَ النَّفْيَ فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى مَا ذَكَرَ.
قولهُ: (لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ) أَيْ مِنْ الزَّوْجِ وَالْمَنْعِ مِنْ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ لِحَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْمُوجِبُ وَهُوَ احْتِبَاسُ الزَّوْجِ وَلَا مُوجِبَ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ مَنْعِهَا لِنَفْسِهَا لِحَقِّهَا كَالْمَهْرِ فَإِنَّ فَوَاتَ الِاحْتِبَاسِ الْمُوجِبِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَجْعَلُ ثَابِتًا وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ.
قولهُ: (وَالتَّبْوِئَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ) فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقَّ الِاسْتِخْدَامِ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا بَوَّأَهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقَّهُ مَا دَامَ لَمْ يَسْتَرِدَّهَا، وَاسْتِرْدَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ رُجُوعًا فِيمَا أَسْقَطَ بَلْ طَلَبَ حَقَّهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ أَوْ الْحَالِ وَلَهُ ذَلِكَ وَلِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا ثُمَّ يُبَوِّئُهَا ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا وَهَلُمَّ جَرًّا، فَكُلَّمَا اسْتَرَدَّهَا سَقَطَتْ، فَإِذَا رَجَعَ فَبَوَّأَهَا وَجَبَتْ، وَلَوْ خَدَمَتْ الْمَوْلَى أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ اسْتِخْدَامٍ وَاسْتِرْدَادٍ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ التَّبْوِئَةُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِرْدَادِ.
قولهُ: (وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا) أَيْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ بِشَرْطِ التَّبْوِئَةِ (كَالْأَمَةِ) وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا الْمُكَاتَبَةَ لِأَنَّهَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَالْحُرَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا لِنَفْسِهَا وَمَنَافِعِهَا بِحُكْمِ عَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ.